الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله وصحبه. أما بعد:
أضاء نور الإسلام فأسفر ثغر الدهر لنساء العرب عن جو مشرق، وأمل بعيد، وأسلوب من الحياة جديد. رسخت أصول الإسلام، وورفت ظلاله، وخفقت على الخافقين أعلامه، ونعمت المرأة تحت ظله بوثوق الإيمان، ونهلت من معين العلم، وضربت بسهم في التشريع وشرع لها من الحقوق ما لم يشرع لأمة من الأمم في عصر من العصور، فقد أمعنت في سبيل الكمال طلقة العنان، حتى أخملت من بين يديها، وأعجزت من خلفها، فلم تشبهها امرأة من نساء العالمين في جلال حياتها وسناء منزلتها.
تلك هي المرأة التي وثب بها الإسلام، ووثبت به، وكان أثرها في تكوين رجاله، وتصريف حوادثه أشبه ما يكون بأثر الغدير الهادئ الفياض في زهر الرياض1.
إن الإسلام لم يعتبر المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون، ولكنه قرر حقيقة تزيل هذا الهوان عنها، وهي أن المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق وعليها أيضاً من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل بما اختص به من شرف الرجولة، وقوة الجلد، وبسطة واتساع الحيلة، أن يلي رياستها، فهو بذلك وليها، يحوطها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده، ذلك ما أجمله الله، وضم أطرافه، وجمع حواشيه، بقوله تباركت آياته: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ سورة البقرة: (228).
تلك هي درجة الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس، وجحود الحق.. ولئن قرن الإسلام بين الرجل والمرأة في عامة المواطن، فلقد عرف لها نصيبها من رقة القلب، ودقة الوجدان، وأنها مناط شرف الرجل، وموطن عرضه، فاختصها بنصيب من الحرمة والكرامة لم يظفر بمثله نظراؤها من الرجال.
إن كرامة المرأة في الإسلام تتناول شخصها وسيرتها، وتشمل مشهدها ومغيبها، فمن حقها أن تكون في موطن الرعاية والعناية، وأن يكون اسمها بمنجاة من لغو القول، ومنال اللسان2.
ومما يدل على احترام الإسلام للمرأة ورعاية حقوقها مسألة نكاح المرأة واختيارها في ذلك: فقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وقال: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ثم أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت)3.
وحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: رضاها صمتها)4.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: قوله: (باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها) في هذه الترجمة أربع صور: تزويج الأب البكر، وتزويج الأب الثيب، وتزويج غير الأب البكر وتزويج غير الأب الثيب.
وإذا اعتبرت الكبر والصغر زادت الصور، فالثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقاً إلا من شذ كما تقدم، والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقاً إلا من شذ كما تقدم، والثيب غير البالغ اختلف فيها فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها كما يزوج البكر، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره، والعلة عندهم أن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، والبكر البالغ يزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء، واختلف في استئمارها. والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وسأذكر مزيد بحث فيه.
وقد ألحق الشافعي الجد بالأب. وقال أبو حنيفة والأوزاعي في الثيب الصغيرة يزوجها كل ولي فإذا بلغت ثبت الخيار. وقال أحمد: إذا بلغت تسعاً جاز للأولياء غير الأب نكاحها، وكأنه أقام المظنة مقام المئنة، وعن مالك يلتحق بالأب في ذلك وصي الأب دون بقية الأولياء؛ لأنه أقامه مقامة كما تقدمت الإشارة إليه، ثم إن الترجمة معقودة لاشتراط رضا المزوجة بكراً كانت أو ثيباً صغيرة كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها 5. أ.هـ
فيتضح من كلام الحافظ رحمه الله تعالى: أنه لا ولاية إجبار على المرأة سوى الصغيرة حيث إنها لا عبارة لها وقد بوب البخاري رحمه الله تعالى باباً آخر فقال: باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود 6.
وقد ذكر الفقهاء هذه المسألة واختلفوا فيها. قال الشيخ: د/ عبد الكريم زيدان في كتابه المفصل في أحكام المرأة 7:القول الراجح في تزويج البالغة البكر:والراجح من أقوال الفقهاء في مسألة تزويج البالغة العاقلة البكر وهو ما يأتي:
أ- لا ولاية إجبار لأحد على البالغة العاقلة البكر، فلا يجوز لوليها أباً كان أوغيره أن يزوجها إلا بإذنها ورضاها.
ب- إذا زوجها الوالي ورضاها فالنكاح مفسوخ إلا إذا أجازته.
ج- لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها بنفسها إلا إذا أذن لها الولي، فإن أَذِن فعبارتها صالحة لإنشاء عقد النكاح، وإن لم يأذن وعقدت النكاح لنفسها فنكاحها باطل.
د- إذا عضلها الولي ولم يأذن لها بتزويج نفسها ولا بأن يزوجها بالكفؤ راجعت القاضي لرفع الظلم عنها.
قال: ونذكر فيما يلي الأدلة على ترجيح ما رجحناه: ثم ذكر زيدان الحديث السابق ذكره الذي رواه البخاري وترجمة البخاري لذلك الحديث بقوله: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، ونقل كذلك كلام الحافظ بن حجر في شرح ذلك الحديث قال: وأخرج هذا الحديث أيضاً مسلم في صحيحه كما أنه أخرجه بروايات أخرى منها:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها) وفي رواية أخرى لمسلم:(الثيب أحق بنفسها من وليها) والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها)8.
وأخرج هذا الحديث برواية البخاري، وبروايات مسلم وأصحاب السنن: أبودواد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما أخرجه الدارمي والبيهقي9.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله بعد أن ذكر أحاديث استئذان البكر قبل تزويجها وظاهر أحاديث الباب، أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم يصح العقد)10.
ومعنى ذلك:أن الولي ليست له ولاية إجبار على البالغة البكر وأنه لا يزوجها إلا بإذنها، ولهذا إذا زوجها لم يصح عقد النكاح.
ثانياً: الأدلة على أن تزويج الولي البالغة البكر دون إذنها مفسوخ إلا أن تجيز:
1- أخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جاريةً بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في شرحه: في الحديث دلالة على تحريم الإجبار للأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى11. وجاء في كتاب (سبل السلام) في شرح هذا الحديث: وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه: ولا تنكح البكر حتى تستأذن) وهذا الحديث أفاد ما أفاده، فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى، ثم قال صاحب(سبل السلام) وهو يشرح هذا الحديث: وقال البيهقي: حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفؤ. قال صاحب سبل السلام تأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة، بل قالت: إنه زوجها وهي كارهة فالعلة كراهيتها، وعليها علق التخيير فأينما وجدت الكراهة في تزويج الولي البالغة العاقلة البكر ثبت الحكم وهو التخيير 12.
2- أخرج النسائي في سننه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: إن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، فقالت عائشة: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله: قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء 13.
وقال صاحب(سبل السلام) في تعليقه على هذه الحديث الشريف: والظاهر أنها بكر، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفؤاً: هو ابن أخيه. وإن كانت ثيباً، فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه. والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزوج للكراهة لأن السياق في ذلك فلا يقال هو لكل شيء14.
قال الشيخ زيدان: دلالة الأحاديث على ما رجحناه: وواضح من هذه الأحاديث النبوية الشريفة أن الأب إذا زوج ابنته البالغة البكر بدون إذنها ورضاها فالنكاح مفسوخ إلا إذا أجازته. وقد يقال: ليس في هذا الحديث برواياته المختلفة تصريح بأن الجارية التي زوجها أبوها وهي كارهة كانت بكراً، أليس من الجائز أن تكون ثيباً؟ وبالتالي لا يكون في هذا الحديث دلالة على ما رجحناه من أن البالغة البكر لابد من إذنها لصحة تزويجها من قبل الولي؟ والجواب أن يقال: وأيضاً ليس في الحديث صراحة على أن الجارية التي زوجها أبوها كانت ثيباً، هذه واحدة، والثانية: أن شراح هذا الحديث قالوا: إن الجارية التي زوجها أبوها وأشار إليها الحديث كانت بكراً، والثالثة: أن حكم الحديث يشمل البكر لأن لفظ(النساء) في الحديث الشريف عام فيشمل البكر والثيب، وقد أشار إلى هذا صاحب سبل السلام 15.
إذن الخلاصة أيها الأخوة: لا يجوز تزويج المرأة إلا بإذنها بكراً كانت أم ثيباً عدا الصغيرة البكر. فهذا الحق كفله الإسلام للمرأة.
وكم يحزن القلب ويكلم الفؤاد عندما يسمع عن آباء لا يتقون الله في بناتهم، فاتخذوا تلك البنات سلعة يتاجرون بها، فهمّ الواحد منهم أن يزوج ابنته بأعلى المهور لأي رجل ولو كان فاسقاً أو منحرفاً أو قاطع صلاة، وليته أعطاها المهر الذي أوجبه الله لها، بل إنه حرمها منه، وأجبرها على ذلك الزواج فأقول لهؤلاء: اتقوا الله تعالى في بناتكم وأخواتكم. واحرصوا على تزويجهن بصاحب التقوى والدين وارعوا حقوق من استأمنكم عليهن، وأحسنوا تربية أولادكم وبناتكم.
والحمد لله رب العالمين.
1 - عودة الحجاب (2/65) نقلاً عن المرأة العربية (2/14) بتصرف.
2 - المصدر السابق (2/76).
3 - البخاري مع الفتح رقم (5136)(9/98).
4 - البخاري مع الفتح برقم (37/5)(9/98).
5 - فتح الباري (9/89).
6 - البخاري مع الفتح (9/101) وذكر حديث خنساء بنت خدام الأنصارية رضي الله عنها.
7 - المفصل في أحكام المرأة د/ عبد الكريم زيدان (6/449-452).
8 - صحيح مسلم الشرح النووي (9/202-205).
9 - سنن أبي داود (6/115-116)، جامع الترمذي(4/240-241) سنن النسائي (6/69-70) سنن ابن ماجه(1/601-602)، سنن الدارمي(2/138) السنن الكبرى للبيهقي (7/115).
10 - نيل الأوطار للشوكاني (6/123).
11- عون المعبود وشرح سنن أبي داود (6/120-121).
12 - سبل السلام شرح بلوغ المرام لابن الأمير الصنعاني(3/162).
13- سنن النسائي (6/71).
14 - سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني(3/162-163).
15 - المفصل في أحكام المرأة د. عبد الكريم زيدان (6/449-452).