تاريخ ألمانيا: من شارلمان الكبير إلى صعود بروسيا
صحيح أن تاريخ ألمانيا ليس مغرقاً في القدم، لكنه غني بالأحداث التي غيرت مجرى التاريخ الأوروبي مرات عدة. ولعل الإصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر وحرب الثلاثين عاماً أبرز شاهدان على ذلك في القرون الوسطى.
يتردد المؤرخون الألمان في تحديد فترة زمنية دقيقة لنشوء الأمة الألمانية. فقد كانت المناطق التي تشكل اليوم جمهورية ألمانيا الاتحادية مسرحا لهجرات واسعة من قبل شعوب وقبائل مختلفة في الفترة التي أعقبت سقوط الدولة الرومانية نهاية القرن الخامس. وقد اصطلح على تسمية سكان هذه المناطق الواقعة في وسط أوروبا بالقبائل الجرمانية. ولم تتوحد المناطق المذكورة في ظل سلطة واحدة إلا مع قيام مملكة الفرنج نهاية القرن الثامن بقيادة الملك كارل الكبير (المعروف في المصادر العربية بشارلمان الكبير والذي تشير المراجع التاريخية إلى تبادله للرسل والهدايا مع الخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد مطلع القرن التاسع). وبعد وفاة كارل الكبير تم تقسيم مملكة الفرنج إلى مملكة الفرنج الغربية التي انبثقت عنها فرنسا لاحقا والى مملكة الفرنج الشرقية التي شكلت الأساس لنشوء ألمانيا لاحقاً.
ظهور مملكة الألمان في خضم صراعات دينية وسياسية
في أوائل القرن العاشر بدأت عملية انفصال الجزء الشرقي من مملكة كارل الكبير وتطورها التدريجي الى ما كان يدعى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة. وضمت إلى جانب المناطق الألمانية أراضي النمسا وسويسرا وشمال إيطاليا وبوهيميا (تشيكيا) وهنغاريا. وقد سميت لاحقا بمملكة الألمان التي يعتبرها الكثير من المؤرخين النواة الأولى لنشوء ألمانيا ككيان سياسي وكدولة في سنوات ما بعد الألفية الأولى.
ونتيجة لضعف الحكم المركزي وللهجمات الخارجية نشأت خلال هذه الفترة من العصور الوسطى العديد من المدن والدويلات المستقلة وخاصة في مناطق سكسونيا وبافاريا وسوابن. وشهدت هذه المدن تطورا سريعا في نظمها الإدارية والقانونية وأضحت مراكز هامة للنشاط التجاري والحرفي ما ساهم في التطور الاقتصادي اللاحق.
عصر الاضطرابات والكوارث
غير أن الفترة المذكورة من القرون الوسطى شهدت أيضا تعاقب العديد من الأسر الحاكمة ونشوب سلسلة من الصراعات على السلطة والنفوذ بين الطامحين في الحكم والدويلات المختلفة والملوك والقياصرة من جهة وبين السلطة الدينية ممثلة ببابا الكنيسة الكاثوليكية في روما من جهة أخرى، هذا بالإضافة الى الحروب الخارجية. وقد أثر كل ذلك بشكل سلبي على مستوى التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في القرن الرابع عشر أدت الاضطرابات السياسية والحروب والإنفجار الديمغرافي والكوارث الطبيعية وتراجع الإنتاج الزراعي إلى ظهور المجاعات وتفشي الأوبئة. إذ تشير المراجع التاريخية الى أن الطاعون أدى في عامي 1349 و 1350 إلى موت ثلث سكان ما كان يدعى بالمملكة الرومانية المقدسة. وفي أواخر القرون الوسطى استطاعت أسرة هابسبورغ الوصول إلى سدة القيصرية التي قدر لها لاحقا لعب دور هام في التاريخ الأوروبي.
مارتين لوثر ونجاح حركة الإصلاح الديني
تمثل حركة الإصلاح الديني التي كان لها أعظم الأثر على التطورات السياسية والفكرية اللاحقة في القارة ألأوروبية مرحلة فاصلة في التاريخ الألماني والأوروبي. وتعود بداية الإصلاح إلى عام 1517 عندما أقدم الراهب مارتن لوثر على نشر أفكاره المناهضة للسلطة البابوية وتعليقها على أبواب إحدى الكنائس في مدينة فيتنبيرغ شرق ألمانيا معلنا بذلك الحرب على صكوك الغفران. وقد رد بابا الفاتيكان على هذا الهجوم بطرد لوثر من الكنيسة الكاثوليكية واتهامه بالهرطقة ما ساهم في توسيع القاعدة الاجتماعية لحركة الإصلاح الديني.
كما شهدت تلك الفترة تنصيب الملك كارل الخامس من سلالة هابسبورغ الذي انشغل بالحروب والنزاعات مع الدولة العثمانية ومع فرنسا وبابا الكنيسة الكاثوليكية ما أفسح المجال أمام انتشار حركة الإصلاح الديني لتصبح الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية) بذلك العقيدة السائدة في الكثير من المدن الألمانية.
وتزامنت هذه الأحداث مع اندلاع انتفاضة عارمة للفلاحين (ثورة الفلاحين) نتيجة للاضطهاد القاسي الذي تعرضوا له والأوضاع المعيشية السيئة التي عاشوها. وتوجت الانتفاضة بحرب الفلاحين التي رافقتها أعمال عنف وانتقام واسعة النطاق خلال الفترة من 1524 إلى 1526.
حرب الثلاثين عاماً وإضعاف القيصرية
أوائل القرن السابع عشر بدأت عمليات التضييق على أتباع المذهب البروتستانتي، وخاصة في عهد القيصر فرديناند الثاني الذي حاول إجبار السكان على اتباع المذهب الكاثوليكي في انتهاك واضح لمبدأ حرية الأديان المكفولة آنذاك. وهو الأمر الذي ساهم في اندلاع الانتفاضة البوهيمية في براغ. وكانت هذه الانتفاضة بمثابة شرارة بدء حرب الثلاثين عاما التي استمرت من عام 1618 و حتى عام 1648. هذه الحرب التي بدأت كحرب دينية سرعان ما تحولت الى حرب أوروبية واسعة النطاق شاركت فيها كل من النمسا واسبانيا وفرنسا والسويد والدنمارك الى جانب الدويلات الألمانية المختلفة. وكانت الأراضي الألمانية المسرح الأساسي للمعارك الطاحنة خلال هذه الحرب التي دمرت مناطق واسعة وأدت إلى خسائر بشرية هائلة. وبنتيجة ذلك تراجع عدد السكان الى النصف مقارنة بفترة ما قبل الحرب كما يقول المؤرخون. وبعد مفاوضات طويلة انتهت هذه الحرب بإبرام ما يدعى صلح ويستفاليا (نسبة الى منطقة ويستفاليا الواقعة غرب ألمانيا) في عام 1624. وبموجب هذا الصلح تم الاعتراف بالمساواة بين الطوائف الثلاثة الكاثوليكية واللوثرية والكالفانية. كما تم بموجبه ترسيخ تقسيم المملكة الألمانية الى قرابة ثلاثمائة دويلة وإمارة كانت تحظى باستقلال كامل تقريباً، ما يعني الحد من صلاحيات القيصر ألألماني إلى حد كبير. وقد استمر الوضع الذي تميز بازدواجية السلطة بين الحكم المركزي ممثلا في القيصر وبين الأمراء الطامحين للاستقلال سنوات طويلة.
الحكم المطلق وصعود بروسيا
كان الدمار الهائل والتراجع المريع في عدد السكان نتيجة حرب الثلاثين عاما سبباً مباشراً في اعتماد أساليب سياسية جديدة. وهو ما تمثل في ظهور أشكال الحكم المطلق على الصعيد السياسي وفي انتشار الأفكار الاقتصادية للمدرسة المركانتيلية الداعية إلى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.
كما شهد النصف الثاني من القرن السابع عشر صعود بروسيا كقوة أوروبية مؤثرة ومنافسة للإمبراطورية النمساوية- المجرية. من جهة أخرى بدأت آنذاك أفكار التنوير بالتغلغل في الأوساط الاجتماعية والسياسية. وهو ما تزامن أيضا مع بروز الأفكار القومية التي كانت تدعو لتوحيد الدوليات والولايات الألمانية الصغيرة في إطار دولة وطنية. وانتهت هذه الحقبة بحروب نابليون التي أدت إلى النهاية الرسمية للامبراطورية الرومانية المقدسة عام 1806.