بقلم سامي الرياميواهم من يحصر الجاهلية في الحقبة التي سبقت
رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، وانتهت بظهور الإسلام، لأن الجاهلية ليست
تأريخاً بقدر ما هي تعبير عن ذهنية، جوهرها مبادئ الحوار المتمدن، الذي
يبقى في إطار الحوار لمصلحة أو قضية عامة!
كثيرون مازالوا يعيشون تلك الحقبة فكرياً،
فهم لم يصلوا قط إلى العصر الحديث، ولم يتعلموا من العلم والحضارة شيئاً
سوى أمور شكلية لا تمتّ للعقل بأي صلة، وكثيرون هم من يعيشون الجاهلية حتى
وهم مزودون بأجهزة تقنية حديثة، فالأجهزة لا يمكنها أن تمحو جهل العقل، بل
تصبح مساعداً لزيادة الجهل إن أسيء استخدامها، ولنا أن نتخيل مسدساً
حقيقياً في يد طفل، فلا هو يعرف استخدامه، ولا خطورته، ولا هو يدرك الخطر،
ولا يظن الأمر أكثر من لعبة!
التقنية، مثل ذلك المسدس، لأننا مازلنا
نستخدمها فقط بأيدينا، في حين أنها صنعت من أجل أن يستخدمها العقل قبل
اليدين، المؤشرات تدل على ذلك، وعلى الرغم من كوننا دولة متحضرة راقية
سبقنا كثيرون في استخدام التقنية، وتوفير البنية التحتية اللازمة لها،
وتقدم لنا الشركات الوطنية وغير الوطنية كل جديد في هذا الشأن، إلا أن
البعض يأبى إلا أن يبقى متسمّراً خلف أسوار الجاهلية الأولى، ويأبى أن
يستخدم عقله للاستفادة من هذه التقنية، بقدر ما يهمشها ويجعلها وسيلة لنشر
الجهل والتحريض.
بالتأكيد هناك في المقابل من هم في قمة
الرقي الفكري والثقافي، وهم في قمة الوعي، وهم مدركون لكل كلمة يتفوهون
بها، أو يكتبونها، ولا أشك أبداً في أن هذه الفئة هي الغالبة، وهي التي
تشكل الأغلبية في المشهد العام، لكن للأسف الشديد أصحاب الفكر المتدني هم
أكثر نشاطاً وتفاعلاً، ويساعدهم في انتشارهم مجموعة من الدهماء الذين
ينقلون كل غث وتافه من دون أن يفكروا في مضمونه، بينما يفضل أهل الفكر
الراقي عدم الخوض في ميادين التفاهة، وهم بلا شك محقون في ذلك.
مجتمعنا أصبح خليطاً من هؤلاء وأولئك، ولا
ندري أتكون التقنية سبباً من أسباب تطورنا مستقبلاً، أم أنها ستتحول إلى
وسيلة تدمير جديدة، ووسيلة لإنهاء كل ما تبقى من جمال وثقافة ووعي؟ لا ندري
إن كانت القلة القليلة من أرباب الفكر الجاهلي هي التي ستظل مسيطرة على
المشهد التقني، وستواصل عمليات التخريب ونشر التفاهات والشائعات، أم أن
الأغلبية الواعية ستكون أكثر تأثيراً وتفاعلاً خلال السنوات المقبلة،
خصوصاً في تلك الميادين الجديدة التي تكاد تكون مستعمرة حصرية لأصحاب الفكر
الرديء.
ليس خطأ التقنية من دون شك، فلا نملك أن
نهجرها لمجرد أنها يمكن استخدامها ممن لا يستحقها، بل علينا أن نعمل على
زيادة الوعي والتثقيف للأجيال المقبلة، فهم أقدر على التعامل مع هذه
التقنيات بشكل أفضل، لأنهم يمتلكون عقولاً أطهر وأنظف بكثير من بعض العقول
الحالية التي لم تستطع تجاوز الزمن والوقت وتصر على البقاء في زوايا ضيقة،
ستضيق أكثر فأكثر مع سيطرة ذهنية الجهل والجاهلية.