محة عن حياة الإمام ابن تيمية
(661 - 728)
هو شيخ الإسلام الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام بقية العصر قدوة الخلف تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبدالحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبدالسلام بن تيمية الحراني الدمشقي .. الإمام المحدث الحافظ الناقد والمفسر الغواص في معاني القرآن والمؤرخ المطلع على أحداث التاريخ المبرز في العلوم النقلية والعقلية على كبار المتخصصين فيها والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ، سيف الله المسلول على الفلاسفة والملحدين وعلى الغلاة المبتدعين ..
سطرت في ترجمته وإبراز شخصيته الفذة عشرات من المجلدات وفي ذلك ما يغني القارئ عن أن أترجم له في هذه المقدمة ، غير أني أرى أن أزود القارئ الكريم بهذه الشذرات القليلة مما زكاه به كبار علماء عصره :
1 - قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبدالهادي : " هو الشيخ الإمام الرباني إمام الأئمة ، ومفتي الأمة ، وبحر العلوم ، سيد الحفاظ ، وفارس المعاني والألفاظ ، فريد العصر وقريع الدهر ، شيخ الإسلام ، وعلامة الزمان ترجمان القرآن ، علم الزهاد ، أوحد العباد وقامع المبتدعين وآخر المجتهدين ، تقي الدين أبوالعباس ، أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن ، عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة ، شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات ، عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني ، نزيل دمشق ، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها " ..
2 - وقال الإمام الحافظ الفقيه الأديب إبن سيد الناس فتح الدين أبوالفتح محمد بن محمد اليعمري المصري الشافعي : وهو يتحدث عن المزي : " وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً ، وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظاً . إن تكلم في التفسير ، فهو حامل رايته ، أو أفتى في الفقه ، فهو مدرك غايته ، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته ، أو حاضر بالملل والنحل ، لم ير أوسع من نحلته في ذلك ، ولا أرفع من درايته ، برز في كل فن على أبناء جنسه ، ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه " ..
3 - وقال الإمام الحافظ الناقد أبوالحجاج يوسف المزي : "ما رأيت مثله ، ولا رأى هو مثل نفسه ، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه " . .
4 - وقال العلامة كمال الدين ابن الزملكاني : " كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله ، وكان الفقهاء من سائر الطوائف ، إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا قد عرفوه قبل ذلك ، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه ، ولا تكلم في علم من العلوم سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه ، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين ، واجتمعت فيه شروط الإجتهاد على وجهها " ..
وقال الإمام الحافظ أبوعبد الله شمس الدين الذهبي وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:" كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك رأساً في معرفة الكتاب والسنة ، والاختلاف ، بحراً في النقليات ، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعة وسخاء وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، وكثرة التصانيف ، وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه ، وتأهل للتدريس والفتوى وهو إبن سبع عشرة سنة ، وتقدم في علم الأصول وجميع علوم الإسلام ( أصولها وفروعها ، ودقها وجلها ) ، فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه ، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق ، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا وسرد وأُبلسوا واستغنى وأفلسوا ، وإن سمي المتكلمون فهو فردهم وإليه مرجعهم ، وإن لاح إبن سيناء يقدم الفلاسفة فلَّهم وتيَّسهم وهتك أستارهم وكشف عوارهم ، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة ، وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو ينبه على شأوه قلمي ، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدين وهو بشر من البشر له ذنوب فالله يغفر له ويسكنه أعلى الجنة فإنه كان رباني الأمة فريد الزمان وحامل لواء الشريعة وصاحب معضلات المسلمين ، وكان رأسا في العلم يبالغ في إطراء قيامه في الحق ، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد ، ولا لحظتها من فقيه " ..
وقال في مكان آخر : " وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل وبالصحيح وبالسقيم ، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به ، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه ، وهو عجب في إستحضاره وإستخراج الحجج منه ، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال : ( كل حديث لا يعرفه إبن تيمية فليس بحديث ) لكن الإحاطة لله غير أن يغترف من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي ،وأما التفسير فمسلم إليه ، وله في استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحير فيه ، ولفرط إمامته في التفسير وعظم إطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين ويوهي أقوالاً عديدة وينصر قولاً واحدًا موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث ،ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد ، وما أبعد أن تصانيفه الآن تبلغ خمسمائة مجلدة ، وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد " ..
يقول عنه تلميذه شيخ الإسلام إبن القيم : وسمعت شيخ الإسلام إبن تيمية يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، قال : وكان إذا صلى الفجر يجلس مكانه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار جداً وكان إذا سُئل عن ذلك يقول : هذه غدوتي ولو لم أتغد هذه الغدوة سقطت قواي ، وكان يقول لما خلق الله حملة العرش قالوا : ربنا لم خلقتنا ؟؟ قال : خلقتكم لتحملوا عرشي !! قالوا : ربنا ومن يطيق حمل عرشك وعليه عظمتك ؟؟ قال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكان يكثر أن يقول : أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي ، وكان يقول : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، وكان يقول : لا بد للسالك إلى الله من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه ، وقال : العارف يسير إلى الله عز وجل بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس ، وكان يتمثل كثيرا :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ *** عوى وصوت إنسان فكدت أطير
شيوخه
بلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ ، من أبرزهم والده عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ، والمحدث أبوالعباس أحمد ابن عبد الدائم ، وابن أبي اليسر ، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي الحنبلي ، وابن الظاهري الحافظ أبوالعباس الحلبي الحنفي ..
تلاميذه
أَمَّا تلاميذه فلا يحصون كثرة ، فمن تلاميذه البارزين والمبرزين :
** شمس الدين أبوعبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي إبن قيم الجوزية ..
** والحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي ..
** والحافظ أبوالحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي ..
** والحافظ المؤرخ أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي ..
** وأبوالفتح ابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري المصري ..
** والحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي ..
وغيرهم الكثير .....
مؤلفاته
إن مؤلفات هذا الإمام كثيرة جداً بحيث عجز تلاميذه ومحبوه عن إحصائها ، قال تلميذه النجيب شمس الدين أبوعبد الله محمد بن أبي بكر المشهور بإبن القيم - رحمه الله -:" أما بعد : فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ أوحد زمانه ، تقي الدين أبوالعباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه - فذكرت لهم أني عجزت عن حصرها وتعدادها لوجوه أبديتها لبعضهم وسأذكرها إن شاء الله فيما بعد..." ..
ثم قال:
1 - " فمما رأيته في التفسير" فذكر اثنين وتسعين مؤلفا مابين رسالة وقاعدة ..
2 - قال : " ومما صنفه في الأصول مبتدئًا أو مجيباً لمعترض أو سائل " فذكر عشرين مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة وقاعدة ..
3 - ثم قال : " قواعد وفتاوى " فذكر خمسة وأربعين ومائة مابين كتاب وقاعدة ورسالة ..
4 - " الكتب الفقهية " وسرد خمسة وخمسين مؤلفاً مابين كتاب ورسالة وقاعدة ..
5 - " وصايا وإجازات ورسائل تتضمن علوماً " بلغت اثنتين وعشرين ..
وقال الشيخ الذهبي : "جمعت مصنفات شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه فوجدته ألف مصنف ثم رأيت له أيضا مصنفات أخر " ..
كما ذكر الحافظ إبن عبد الهادي كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام مع ذكر نماذج لبعض المؤلفات والتنويه بمكانتها في كتابه العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام إبن تيمية ..
وأحب أن أختم هذه اللمحة عن حياة شيخ الإسلام إبن تيمية بهذه المرثية التي أنشد الإمام الذهبي لنفسه يرثي شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله تعالى فقال :
يا موت خذ من أردت أو فدع محوت رسم العلوم والورع
أخذت شيخ الإسلام وانفصمت عرى التقى واشتفى منه أولو البدع
غيبت بحراً مفسراً جبلاً حبراً تقياً مجانب الشيع
فإن يحدث فمسلم ثقة وإن يناظر فصاحب اللمع
وإن يخض نحو سيبويه يفه بكل معنى من الفن مخترع
وصار عالي الإسناد حافظه كشعبة ٍأو سعيد الضبعي
والفقه فيه فكان مجتهداً وذا جهادٍ عار ٍمن الجزع
وجوده الحاتمي مشتهر وزهده القادري في الطمع
أسكنه الله في الجنان ولا زال علياً في أجمل الخلع
مع مالك الإمام وأحمد والنعمان والشافعي والخلعي
مضى إبن تيمية وموعده مع خصمه يوم نفخة الفزع
هذه لمحة خاطفة عن حياة هذا الإمام العظيم رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ..