بسم الله الرحمن الرحيم بعد موضوع اخى ابراهيم im ومدى اقبال الكثير على ما يسمى شخصية جحا احببت ان اجمع موضوع كامل يتحدث عن حجا عبر التاريخ من الفكاهة والحماقة والفكر والذكاء مثل هذا الرجل الذكى الذى كان يدعى التغابى من اجل ابداء رأيه بحرية كاملة
جحا
جُحا (60 - 160هـ، 680 - 777م). جحا شخصية فكاهية حقيقية، لكنها سرعان ماانفصلت عن واقعها التاريخي، وأصبحت رمزًا فنيًا، ونموذجًا نمطيًا للفكاهة في التراثالعربي. ومن هنا قيل على لسانه آلاف النوادر أو الحكايات المرحة، على مر العصور . لقد نسي الناس جذوره التاريخية، ولكنهم لم ولن ينسوا أبدًا أسلوبه الضاحك وفلسفته الساخرة.
هو أبو الغصن دُجين الفزاري الذي عاش نصف حياته في القرن الأول الهجري ونصفها الآخر في القرن الثاني الهجري، فعاصرالدولة الاموية وبقي حياً حتى حكم الخليفة المهدي، وقضى أكثر سنوات حياته التي تزيد على التسعين عاماً في الكوفة.
اختلف فيه الرواة والمؤرخون، فتصوّره البعض مجنوناً وقال البعض الآخرإنه رجل بكامل عقله ووعيه وإنه يتحامق ويدّعي الغفلة ليستطيع عرض آرائهالنقدية والسخرية من الحكام بحرية تامة.
وما إن شاعت حكاياته وقصصه الطريفة حتى تهافتت عليه الشعوب، فكل شعب وكل أمة على صلة بالدولة الإسلامية صمّمت لها (جحا) خاصاً بها بتحوير الأصل العربي بما يتـلاءم
مع طبيعة تلك الأمة وظروف الحياة الاجتماعية فيها. ومع أن الأسماءتختلف وشكل الحكايات ربما يختلف أيضاً، ولكن شخصية (جحا) المغفّل الأحمق هي هي لم تتغيّر.
بل إنك تجد الطرائف الواردة في كتاب (نوادر جحا) المذكور في [[فهرست ابن النديم (377هـ) هي نفسها لم يختلف فيها غير أسماء المدن والملوك وتاريخوقوع الحكاية، فجحا العربي عاش في القرن الأول الهجري واشتهرت حكاياته فيالقرنين الثاني والثالث، وفي القرون التي تلت ذلك أصبح (جحا) وحكاياتهالظريفة على كل لسان، وقد ألّفت مئات الحكايات المضحكة ونُسبت إليه بعدذلك، ويبدو أن الأمم الأخرى استهوتها فكرة وجود شخصية ظريفة مضحكة فيأدبها الشعبي لنقد الحكام والسخرية من الطغاة والظالمين، فنقلت فكرة (جحاالعربي) إلى آدابها مباشرة، وهكذا تجد شخصية (نصر الدين خوجه) في تركيا، و(ملة نصر الدين) في إيران، و(غابروفو) جحابلغاريا المحبوب، و(ارتين) جحاأرمينيا صاحب اللسان السليط، و(آرو) جحا يوغسلافيا المغفل. وبعودة بسيطة إلى التاريخ تكتشف أن كل هذه الشخصيات في تلك الأممقد ولدت واشتهرت في القرون المتأخرة، وهناك شك في وجودها أصلاً، فأغلب المؤرخين يعتقدون أنها شخصيات أسطورية لا وجود لها في الواقع، وقد اشتهرت حكاياتها في القرون الستة الأخيرة، وربما أشهرها وأقدمها هو (الخوجة نصرالدين) التركي الذي عاصرتيمورلنك في القرن الرابع عشر الهجري، كما يتضح ذلك من حكاياته الطريفة مع هذا الطاغية المغولي.
وعلى الرغم من كثرة أعلام الفكاهة في التراث العربي، فإن جحا يبقى أشهر شخصيةنمطية فكاهية، لاتزال حيّة فاعلة ـ حتى اليوم ـ في الذاكرة الجمعيةالعربية ، الادبية والفولكلورية والثقافية. وشهرته الفنيِّة لا تلغي الدور التاريخي الذي يؤكدأن جحا شخصية حقيقية. فهو أبو الغصن دُجَيْن بن ثابت الفزاري، ولقبه جحا، وقد عرفبين معاصريه بالطيبة والتسامح الشديدين، وأنه كان بالغ الذكاء، وتنطوي شخصيته علىقدر كبير من السخرية والفكاهة. ووسيلته إلى ذلك ادّعاء الحمق والجنون، أو بالأحرىالتحامق والتباله في مواجهته لصغائر الأمور اليومية، استعلاء منه على حياة فانية،وشعورًا بعبثية الصراع الدنيوي، وإحساسًا بالجانب المأساوي للوجود الإنساني (الموت) في وقت معًا. ولذلك لا غرو أن يعمّر جحا، وأن يعيش مائة سنة، كما يقول الجاحظ. وقدشهدت الفترة التاريخية التي عاصرها جحا أحداثًا جسامًا كان لها أبعد الأثر فيأسلوبه وفلسفته في الحياة والتعبير، منها مأساة السقوط الدموي للدولة الأموية،وهيمنة الدولة العباسية ـ بقوة السيف ـ على مقدرات الأمور العربية الإسلامية، وسطمناخ ثقافي حافل آنذاك بالصراع السياسي والعسكري والمذهبي والعرقي.
جحا
وفي مثل هذه الظروف التاريخية الاجتماعية حدث أن استدعى أبو مسلم الخراساني ـعندما نزل الكوفة ـ جحا لشهرته، عسى أن يظفر منه بطرفة أو فكاهة في خضم حروبهالدموية، فخشي جحا على نفسه، وادعى الحمق والجنون في حضرته. وبالرغم من ذلك فقدأعجب به أبو مسلم، وحدث عنه الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، الذي بادر فاستدعاهإلى دار الخلافة في بغداد لعله يصلح نديمًا أو مضحكًا (مهرجًا) في بلاطه. وقد أدركجحا عاقبة مثل هذا الدور وهامشيته ومخاطره وقيوده، فما هو بمهرج وما ينبغي له أنيكون كذلك. فتمادى في ادعائه الحمق والجنون حتى أفرج عنه المنصور بعد أن أجزل لهالعطاء. وكان لمثل هذا اللقاء أثره البالغ أيضًا في ازدياد شهرته، وطلب الناس له فيمجالسهم، والإغداق عليه. وهم سعداء به وبنوادره، وبرؤيته الساخرة للحياة والأحياءجميعًا، وهنا قال جحا قولته الساخرة المشهورة: "حُمْق يعولني خيرٌ من عقلٍأعوله".
ومن الطريف الدال على أن جحا استمرأ هذا الأمر ـ التغابي أو التحامق ـ ما داميعفيه من تبعات الناس، ويتيح له قدرًا كبيرًا من الشجاعة في قول الحق، وحكمة الرأيوأن يكون صريحًا في التعبير عن نفسه، أنه دائمًا يستسلم لرغباته في لحظاته، وإنْاتهمه الناس بالحمق والجنون ـ فليس ثمة عندئذ من حرج ـ مما يجعله بريئًا من الخوفأو الكبت وقادرًا على قول "المسكوت عنه" دائمًا، اجتماعيًا وأخلاقيًا وسياسيًاوإنسانيًا.
وشرع اسمه يتردد في أدبيات القرنين الثاني والثالث للهجرة، مقرونًا ببعضالنوادر، كما ذكر الجاحظ، ولكن ما نكاد نصل إلى القرن الرابع الهجري حتى تكوننوادره المتواترة شفهيًا قد عرفت طريقها إلى التدوين في أسواق الوراقين باسم كتاب نوادر جحاالذي كان من الكتب المرغوب فيها على حد تعبير ابن النديم فيالفهرست. ومن أقدم التراجم التاريخية التي وصلت إلينا عن جحا، تلك الترجمة الضافيةالتي ذكرها الآبي (المتوفي سنة 421هـ، 1030م) في موسوعته نثر الدرر. ثمتوالت التراجم له في كثير من المصادرالادبية والتاريخية اللاحقة.
وعلى الرغم منأنها أجمعت على الوجود التاريخي لهذه الشخصية، فإنها أنكرت عليه كل ما روي عنه مننوادر بلغت من الكثرة حدًا يستحيل ـ زمانًا ومكانًا ـ أن تكون جميعًا متصلة به، بلذكر الآبي صراحة: "أن له جيرانًا كانوا يضعون عليه هذه النوادر" أي يؤلفونهاوينسبونها إليه، بل أضافوا إليه أيضًا ـ كما يقول ـ نوادر غيره من نوادر الحمقىوالمغفلين والأذكياء وعقلاء المجانين وأمثالها من النوادر الذائعة في التراثالعربي. وهذا يعني أن الوجدان الشعبي العربي قد انتخب جحا رمزًا لكل ضروب الفكاهة،خاصة بعد أن تَزيَّدَ الناس عليه، فنسبوا إليه، على مر العصور، آلاف النوادر حتىليقول عباس محمود العقاد في كتابه جحا الضاحك المضحكعبارة طريفة ذات دلالة،هي أن جحا لو تفرغ في حياته لصناعة النوادر التي نسبت إليه، لمات قبل أن تنفدروايتها أو ينتهي هو من إبداعها. ومعني هذا أن جحا انفصل عن واقعه التاريخي وتحولإلى رمز فني استقطب معظم ما قيل من نوادر التراث العربي، الذائعة، وما أكثرها! بلشرع الشعب العربي، على تعدد أقطاره، يؤلف ما يؤلف من نوادر وينسبها إلى جحا على مرالعصور.
وهذا يعني أن المأثور الجحوي الذي لايزال يتنامى حتى اليوم، لم يكن ـ بداهة ـ منتأليف جحا أو إبداعه، بل كان تعبيرًا جَمْعِيّاً من إبداع الشعب العربي بعامة،ترسيبًا للتجربة ونزوعًا إلى السمر في وقت ما. فأعلن المجتمع الشعبي على لسان جحاتأملاته في الحياة والأحياء، وجسّد تصوراته السياسية والاجتماعية والدينية، بما فيذلك "المسكوت عنه" وصاغ رؤيته للعالم، ونظرته للقيم والمثل العليا، كما ينبغي أنتكون، وذلك في صياغة أدبية جمالية، ذات قالب سردي أو شكل فني متميز هو فن الحكاية المرحةأو ما عرف في تراثناالادبي باسم النوادر.
غير أن النقلة النوعية الكبرى في حياة النموذج الجحوي تحققت في القرن العاشرالهجري (السادس عشر الميلادي)، عندما دخل العرب تحت السيادة العثمانية، حيث استهوىالأتراك آنذاك هذا النموذج الجحوي العربي، فقاموا بنقل نوادره وترجمتها إلىالتركية، ونسبتها إلى شخصية تركية شبيهة بالنموذج العربي، اشتهرت أيضًا بميلهاللدعابة، وجنوحها إلي السخرية، وحبها للفكاهة، هي شخصية الخوجة نصر الدين،الذي كان معلمًا وفقيهًا و قاضيا. وقد قُدّر له أن يلتقي ـ تاريخيًا ـ بتيمورلنكالطاغية المعروف؛ وأن تكون بينهما من المواقفو الطرائف ما يعكس حمق هذا الطاغيةوظلمه وجبروته ضد المستضعفين أفرادًا وجماعات.
وفي ضوء اتصال الثقافتين الإيرانية والتركية إبان العصور الوسطى، ادّعىالإيرانيون أيضًا لأنفسهم هذه الشخصية، وأطلقوا عليها اسم المُلاَّ نصر الدينوزعموا أنها إيرانية لا تركية، ونسبوا إليها النوادر الجحوية، التركيةوالعربية معًا، فازدادت هذه الشخصية الفكاهية ثراء وشهرة وذيوعًا في تركيا وإيران،إلى جانب شهرته العربية بطبيعةالحال لكونه النموذج الأصل. وغدت هذه النماذجالجحوية الثلاثة جزءًا من التراث الشعبي الإسلامي، وعبر هذا التراث ـ عربيًاوتركيًا وفارسيًا ـ استطاع جحا العربي أن يعرف طريقه، باسمه وبنوادره معًا أوبنوادره دون اسمه، إلى الآداب العالمية، خاصة في إفريقيا وأوروبا وروسيا وبلادالبلقان والصين وغيرها. وذلك في الوقت الذي تجاهلت فيه ثقافتنا الرسميةالسائدةحديثًا هذا النموذج الفني الإنساني، وغابت عنا أصوله العربية خاصة عندما شرعالناشرون العرب في طباعة كتب التراث العربي، فذكروا في فهارسها ـ كلما ذكر جحاالعربي ـ أنه المعروف باسم الخوجة نصر الدين. ولما جمعوا هذه النوادر في كتب مستقلةأذاعوها بين الناس تحت عنوان نوادر جحا الكبرى الشهير بنصرالدين خوجةإماجهلاً بأصولهالعربية ونوادره الذائعة في كتب التراث العربي المدونة قبل ظهورالدولة العثمانية ذاتها، وهو الأرجح، وإما مجاملة لثقافة الطبقة التركية السائدةخلال القرون الأربعة الأخيرة التي كان العالم العربي فيها تابعًا للخلافةالعثمانية.
ولما كان المجتمع الشعبي العربي لا يحفل بتراثه الشعبي إلا بقدر ما يحقق له هذاالتراث من وظائف حيوية، فكرية وجمالية، فإنه ظل يردد ـ في موروثه الشعبي الشفهي ـنوادر النموذج الجحوي العربي، بل صار كل قطر عربي يدعيه لنفسه، حتى بات هناك جحا المصري ،وجحا الليبي، وجحا السوري، وجحا العراقي، وهكذا. واختلط الأمر على المثقفينالعرب، ودبّجوا الكتب والمقالات في جحا الإقليمي، دون أن ينتبهوا أو يتبينوا أصوله العربية القومية الأساس. لكن الدراسات الفولكلورية المعاصرة أثبتت أنه ما من قطر عربي إلا وعرف النموذج الجحوي (العربي / القومي) بسَمْتِه وملامحه، وأسلوبه وفلسفتهفي الحياة والتعبير، فعرف فيه "صمام أمان وعصا توازن" في خضم تحدياته ومعوقاته ـوتمثْلَ نوادره زادًا فنيًا ونفسيًا بعيد الأثر قد يدفعه إلى الابتسام والسخرية،وقد يدفعه إلى الضحك والدعابة، لما فيها من انحراف عن المألوف أو تلاعب باللفظ أوخطأ في القياس. ولكننا لو تجاوزنا قشرتها الخارجية، وتأملناها من الداخل لوجدناهاوسيلة حيوية من وسائل الدفاع عن الذات العامة، مؤكدة ـ بالتناقض الظاهر أو الخفي ـالقيم الإنسانية العليا، والغايات القومية، التي تعمل الجماعة أو الأمة العربية علىتحقيقها. وهذا الدور الوظيفي للنوادر في الثقافة الشفهية أقرب ما يكون إلى الدورالذي يلغب الكاريكاتير المعاصر، في الثقافة والصحافة المعاصرة.
وتتمثل عبقرية "الفلسفة الجحوية" أو بالأحرى عبقرية الشعب العربي الذي أبدع هذهالشخصية الجحوية، في أمرين: أحدهما في أسلوب هذه الشخصية في المواجهة، حين اكتشفتبعبقريتها أن الماسأة يمكن أن تتحول إلى ملهاة، في ضوء الحالة النفسية التي نواجهمنها وقائع وأعباء الحياة، فاندماج الإنسان ـ كما نعلم ـ في بؤرة الحدث أو الموقفيضنيه، وخروجه منه وفرجته به يسري عنه، وقد يضحكه، وهكذا استطاع جحا أن يكابدالحياة، ويضطرب فيها، وأن يخلق من نفسه شخصًا آخر بعيدًا عن الأول، يتفرج به ويسخرمنه. وهكذا تحولت المآسي عنده الى طرائف وملح ـ ذات طابع إنساني ـ تخفف عنه وتسريعن أفراد الشعب العربي تأسيًا به، الأمر الذي دفع الوجدان الشعبي إلى أن يسلك جحا ـالواقع والرمز ـ مسلك الحكماء، في تعبيره الفني و الادبي. والآخر، في "تنميط" هذهالشخصية.فلم يكن الحمق أو الغباء السمة الغالبة عليه، ولكنه التحامق أو الذكاءالباحث عن جوهر الحقيقة. ولهذا لم يكن جحا مخبولاً أو ناقص العقل ـ كما يتوهم ـولكنه كان الإنسان الذي يتناول الأمور ـ مهما بدت معقدة أو تظاهرنا نحن بتعقيدها ـمن أقرب الزوايا إلى الحق والواقع، فيبدو مناقضًا لصنيع الآخرين الذين لا يتصور ونالحق قريبًا ويمدون أبصارهم إلى بعيد.
وقد ذهب القدماء إلى تصنيف نوادر جحا المدونة إلى قسمين كبيرين، أحدهما نوادرالحمق والجنون ـ حيث الحمق أو الجنون هنا تعبير دلالي يستدعي نقيضه (فضيلة الذكاءوالتعقل)، أو لغة إرشادية دالة تبوح بالمسكوت عنه (من حماقات الناس). والآخر نوادرالذكاء. ولكن المحدثين ذهبوا إلى تصنيف المأثور الجحوي الشفاهي و الكتابي،طبقًالمحتواه الدلالي: فهناك النوادر السياسية التي تتناول علاقة المجتمع الشعبي بالسلطةالحاكمة (السلطان - القضاء - الأمن الداخلي) وخاصة في عصور القهر العسكري والكبتالسياسي، و في عصور التحول التاريخي والاجتماعي وما تمور به من متناقضات اجتماعيةونفسية، وانحرافات سياسية واقتصادية. والمتأمل لما أثر عن جحا من نوادر سياسية،قالها الشعب العربي على لسان جحا، يراها تشكل في مجملها ـ أسلوبًا ووظيفة ـ بابًاواسعًا من أبواب النقد السياسي في الادب العربي عامة والادب الشعبي خاصة، فلا غروأن يستمر احتفاء الوجدان القومي بهذه النوادر الجحوية على مر العصور، وأن يظلمعتصمًا بها، كلما حزبه أمر أو حفزه موقف، في تلك المعركة الأزلية بين القوىالسياسية والشعب الأعزل، وما ينشأ بينهما من علاقات سلبية، نتيجة حتمية لغياب القانون، وانحراف القضاء، واختلال ميزان العدالة في فترات تارتيخية مختلفة. ليس فقطمن قبيل نقد الوضع القائم، وفضح المسكوت عنه ـ عندما يعِزُّ القول ـ بل أيضًاللقيام بدور "تعويضي" حيث النادرة السياسية هنا بمثابة "تنفيس" عن قهر سلطوي ضاغط،وتهدف إلى التخفيف من المخاوف، حيث يغدو الظالمون موضوعًا للضحك والسخرية، وعندئذيخف العداء للتسلط، نصغره فنكبر، ونحقّره فنرد لذواتنا الاعتبار. فالضحك رفض للظلم،وهذه هي الوظيفة السياسية للنادرة الجحوية. ومن الجدير بالذكر أن كثيرًا من النوادرالسياسية الذائعة في المأثور الجحوي الشفهي الحديث لم تعرف طريقها إلى التدوين،بسبب حذر الناشرين من طباعتها ونشرها.
وهناك النوادر الاجتماعية، وهي من الكثرة بمكان، ولاتزال تتنامى إبداعًا وتذوقًاحتى الآن، وتتعاظم وظائفها الحيوية في نقد الواقع الاجتماعي، وما يمور به من سلبياتفي القول والفعل والسلوك، مما هو سائد في حياتنا اليومية. ولهذا لم تشأ الامة العربية أن تجعل هذه الشخصية التي أبدعتها بعبقريتها سلبية أو منعزلة، وإنما جعلتهاشخصية رجل عادي من الناس، له مشاعرهم ومواقفهم وتجاربهم، وآمالهم وآلامهم، عليه أنيسعى ـ في سبيل العيش ـ كما يسعى غيره، ويختلف إلى الأسواق، ويرحل إلى الأمصار،ويلتقي بالحكام ويتحدث إلى العامة. وهو رب أسرة، له زوج، بينه وبينها ما يكون بينالرجل وصاحبته من الأحداث والمواقف، وله معها نوادر تجسم فلسفته الخاصة في الحياة،بل تجسم ما يريده الشعب العربي من ترسيب التجربة ونقد الحياة الاجتماعية، واتصلتحياة جحا، فكان له ابن ينشئه بحكمته ويحاوره بفكاهته وسخريته، وكأنما أراد أن تمتدحياته وفلسفته أجيالاً متعاقبة. بل سوف نرى أن هذه الشخصية الساخرة تؤكد بدورهاوحدة الحياة عند الأمة العربية،فلم تقتصر مواقف جحا على علاقاته بالناس، وخيرما يصور ارتباط جحا بالأحياء تعاطفه مع حماره الذي ارتقى به حتى جعل منه صديقًا أو شبهصديق، يتحدث إليه ويصب في أذنيه سخرياته اللاذعة من الحياة والأحياء. وبهذا يتكاملالثالوث الجحوي الشهير (امرأة جحا، ابنه، حماره).
ومن الجدير بالذكر أن الشعب العربي في نقده لجوانب الحياة الاجتماعية على لسانجحا، الذي سلك في ذلك مسلك الفكاهة، إنما كان يرى في ذلك التهكم الساخر ضربًا منالثأر السلمي أو القصاص العادل أو الجزاء الاجتماعي الذي تنتقم به الجماعة أو الأمةلنفسها من الخارجين على معاييرها ومثلها وقيمها، بغية الدفاع عن الذات العامة،وحفاظًا على تماسكها، وتعضيدًا لهويتها القومية. ذلك أن النوادر الجحوية بتركيزهاعلى الجانب السلبي في الحياة والمجتمع، لا تنتقم أو تهجو فحسب، بل تعالج وتخفف منالتوتر الداخلي، وتحد من مخاوف الجماعة أو الأمة، وتعيد اعتبار الذات للذات.
ومن اللافت للنظر، أن المأثور الجحوي بعامة، لم يكن وقفًا على النقد السياسي أوالاجتماعي فحسب، بل أدى وظائف أخرى، نفسية وجمالية، بالضرورة. فالنوادر الجحويةليست إلا تعبيرًا عن واقع نفسي وخارجي معًا، في بنية واحدة متعاضدة، إنها هنا تسخر،تنتقد، تنتقم، تفرج، تسِّري، فهي تنفيس وتفريغ لشحنات انفعالية سالبة. وتأتيالنوادر الجحوية ـ في وظائفها الجمالية والإمتاعية ـ تحقيقًا للجانب الباسم في مسرحالحياة، باعتبارها رواية هزلية كبرى كما يقال، وغايتها عندئذ التسلية والإمتاع، إماتحقيقًا لهذا الجانب الباسم من الحياة (ابتسم تبتسم لك الحياة)، وإما تسريةوترفيهًا وتفريجًا عن بعض كرب الحياة وضنك العيش (شر البلية ما يضحك). وبذلك تمنحناهذه النوادر قدرًا من "التطهير" النفسي الذي يزود المرء أو الجماعة بقوة التحملوالصبر والتفاؤل في خضم الإحباط الفردي أو الجمعي (القومي) وكأنها جرعة إنقاذيةوتنشيطية غايتها " تطعيم" الناس ضد واقع محبط، وراهن جارح، وبذلك تضفي هذه النوادرالجحوية على الحياة والواقع قدرًا من التجميل الخيالي والتطهير النفسي الذي يحتاجه الناس كثيرًا.